عذب الإحساس
07-06-2023, 08:33 PM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فإنَّ الله تبارك وتعالى يُحِبُّ أنْ يتفضَّل على عباده، ويتم نِعَمَه عليهم، ويُريهم مواقِعَ بِرِّه وكرمِه؛ فيُحْسِنُ إلى مَنْ أساء، ويعفو عمَّنْ ظَلَم
ويغفر لِمَنْ أذنب، ويقبل عذر من اعتذر إليه، ولو شاء اللهُ تعالى ألَّا يُعصَى في الأرض طرفةَ عَينٍ لم يُعْصَ، ولكن اقْتَضَتْ مشيئتُه ما هو مقتضى حِكمَتِه.
ولهذا؛ فَتَحَ - بِجُودِه وكَرِمِه - بابَ التوبةِ لعباده، وأمَرَهم بها، وحضَّهم عليها؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54]
ووعدهم بقبولها منهم مهما عظُمت الذنوب: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
قال الله تعالى في شأن المنافقين: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ﴾ [النساء: 145، 146]
وقال سبحانه في شأن النصارى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ثم دعاهم إلى التوبة بقوله سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 73-74].
وقال في شأن أصحاب الأخدود، الذين عذَّبوا المؤمنين بحرقهم بالنار:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، قال الحسن البصري رحمه الله:
(انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ؛ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ). فلا يَحِلُّ لأحد - بعد ذلك - أن يَقْنَطَ من رحمة الله، ولا أن يُقَنِّطَ
من رحمته تبارك وتعالى، واللهُ تعالى «يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»؛ رواه مسلم.
عباد الله، للتوبة فضائلُ جَمَّة، وأسرارٌ بَدِيعة، وفوائِدُ مُتعدِّدة، من أعظمها: أنَّ التوبة سببٌ للفلاح؛ قال تعالى:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فمَنْ أراد الفوزَ بسعادة الدارين؛ فليتبْ إلى الله تعالى.
ومن أعظم البِشارات للتائبين: أن التائب تبدَّل سيئاتُه حسناتٍ فضلًا من الله وكرمًا، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]. وبالتوبة تُكَفَّرُ جميعُ الذنوب والسيئات:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8].
والتوبة سببٌ لنزولِ الأمطار، وزيادةِ القوة، والإمدادِ بالأموال والأولاد: قال هودٌ عليه السلام لقومه:
﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 25]، وقال نوحٌ عليه السلام لقومه:
﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ نوح: 10-12].
واللهُ تعالى يُحِبُّ التوبةَ والتوابين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. قال ابن القيم رحمه الله:
(وَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، لَمَا ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ؛ فَلِمَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، ابْتَلَاهُ بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ
وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَزِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ؛ فَإِنَّ لِلتَّائِبِينَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً خَاصَّةً).
وهو - تبارك وتعالى - يفرح بتوبة التائبين: كما مثَّلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا
وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ
قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ»؛ رواه البخاري.
قال ابن القيم رحمه الله: (وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ
وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ).
أيها المسلمون، للتوبة آثارٌ عجيبة، لا تحصل بغيرها: فالتوبة توجب للتائب المَحبَّةَ، والرِّقةَ، واللُّطفَ، وشُكْرَ الله
وحَمْدَه، والرضا عنه، وتوجب له الذُّلَّ والانكسارَ، والخضوعَ، والتذلُّلَ لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا؛ أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ
وَالْكِبْرِ، وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ).
ومن فضائل التوبة وأسرارِها: أنها تُعرِّف العبدَ حقيقةَ نفسِه: وأنها الظالِمَةُ الجَهول، وأنَّ كلَّ ما فيها من خيرٍ، وعلمٍ، وهدى
وإنابةٍ وتقوى - فهو من ربِّها الذي زكَّاها. فإذا ابْتُلِيَ العبدُ بالذنب؛ عَرَفَ نفسَه، ونَقْصَها، وفَقْرَها إلى مَنْ يتولَّاها ويحفظها.
ومن فضائلها وأسرارِها: أنْ يَعْرِفَ المُذنِبُ كَرَمَ اللهِ وسِترَه، وسَعَةَ حِلْمِه، وأنه سبحانه لو شاء لَعاجَلَه على الذنب، ولَهَتَكَ سِتْرَه بين العباد
فلم يَطِبْ له عَيشٌ معهم أبدًا، ويَعْرِفَ - أيضًا - كَرَمَ اللهِ في قبول التوبة، فلا سبيل إلى النَّجاة إلَّا بعفو الله، وكرمِه، ومغفرتِه
فهو الذي جاد عليه بأنْ وفَّقَه للتوبة، وألْهَمَه إياها، ثم قَبِلَها منه.
ومن فضائلها وأسرارِها: أنْ يُعامِلَ العبدُ بني جِنْسِه في زَلَّاتهم وإساءاتِهم بما يُحِبُّ أنْ يُعامله اللهُ به في إساءاتِه وزَلَّاتِه وذنوبِه
فإنَّ الجزاء من جِنسِ العمل؛ فمَنْ عَفَا عُفِيَ عنه، ومَن استقصى استَقْصَى اللهُ عليه.
ومن فضائلها وأسرارِها: إقامةُ المعاذيرِ للخَلْق: فإذا أذنبَ العبدُ أقامَ المعاذيرَ للخلق، واتَّسَعَتْ رحمتُه لهم، واستراح العُصاةُ من دعائه عليهم، وقنوطِه
من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسَه واحدًا منهم؛ فهو يسأل اللهَ المغفرةَ لهم، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
فإنَّ الله تبارك وتعالى يُحِبُّ أنْ يتفضَّل على عباده، ويتم نِعَمَه عليهم، ويُريهم مواقِعَ بِرِّه وكرمِه؛ فيُحْسِنُ إلى مَنْ أساء، ويعفو عمَّنْ ظَلَم
ويغفر لِمَنْ أذنب، ويقبل عذر من اعتذر إليه، ولو شاء اللهُ تعالى ألَّا يُعصَى في الأرض طرفةَ عَينٍ لم يُعْصَ، ولكن اقْتَضَتْ مشيئتُه ما هو مقتضى حِكمَتِه.
ولهذا؛ فَتَحَ - بِجُودِه وكَرِمِه - بابَ التوبةِ لعباده، وأمَرَهم بها، وحضَّهم عليها؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54]
ووعدهم بقبولها منهم مهما عظُمت الذنوب: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
قال الله تعالى في شأن المنافقين: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ﴾ [النساء: 145، 146]
وقال سبحانه في شأن النصارى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ثم دعاهم إلى التوبة بقوله سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 73-74].
وقال في شأن أصحاب الأخدود، الذين عذَّبوا المؤمنين بحرقهم بالنار:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]، قال الحسن البصري رحمه الله:
(انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ؛ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ). فلا يَحِلُّ لأحد - بعد ذلك - أن يَقْنَطَ من رحمة الله، ولا أن يُقَنِّطَ
من رحمته تبارك وتعالى، واللهُ تعالى «يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ»؛ رواه مسلم.
عباد الله، للتوبة فضائلُ جَمَّة، وأسرارٌ بَدِيعة، وفوائِدُ مُتعدِّدة، من أعظمها: أنَّ التوبة سببٌ للفلاح؛ قال تعالى:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فمَنْ أراد الفوزَ بسعادة الدارين؛ فليتبْ إلى الله تعالى.
ومن أعظم البِشارات للتائبين: أن التائب تبدَّل سيئاتُه حسناتٍ فضلًا من الله وكرمًا، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]. وبالتوبة تُكَفَّرُ جميعُ الذنوب والسيئات:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8].
والتوبة سببٌ لنزولِ الأمطار، وزيادةِ القوة، والإمدادِ بالأموال والأولاد: قال هودٌ عليه السلام لقومه:
﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 25]، وقال نوحٌ عليه السلام لقومه:
﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ نوح: 10-12].
واللهُ تعالى يُحِبُّ التوبةَ والتوابين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. قال ابن القيم رحمه الله:
(وَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، لَمَا ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ؛ فَلِمَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، ابْتَلَاهُ بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ
وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَزِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ؛ فَإِنَّ لِلتَّائِبِينَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً خَاصَّةً).
وهو - تبارك وتعالى - يفرح بتوبة التائبين: كما مثَّلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا
وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ
قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ»؛ رواه البخاري.
قال ابن القيم رحمه الله: (وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ
وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ).
أيها المسلمون، للتوبة آثارٌ عجيبة، لا تحصل بغيرها: فالتوبة توجب للتائب المَحبَّةَ، والرِّقةَ، واللُّطفَ، وشُكْرَ الله
وحَمْدَه، والرضا عنه، وتوجب له الذُّلَّ والانكسارَ، والخضوعَ، والتذلُّلَ لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا؛ أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ
وَالْكِبْرِ، وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ).
ومن فضائل التوبة وأسرارِها: أنها تُعرِّف العبدَ حقيقةَ نفسِه: وأنها الظالِمَةُ الجَهول، وأنَّ كلَّ ما فيها من خيرٍ، وعلمٍ، وهدى
وإنابةٍ وتقوى - فهو من ربِّها الذي زكَّاها. فإذا ابْتُلِيَ العبدُ بالذنب؛ عَرَفَ نفسَه، ونَقْصَها، وفَقْرَها إلى مَنْ يتولَّاها ويحفظها.
ومن فضائلها وأسرارِها: أنْ يَعْرِفَ المُذنِبُ كَرَمَ اللهِ وسِترَه، وسَعَةَ حِلْمِه، وأنه سبحانه لو شاء لَعاجَلَه على الذنب، ولَهَتَكَ سِتْرَه بين العباد
فلم يَطِبْ له عَيشٌ معهم أبدًا، ويَعْرِفَ - أيضًا - كَرَمَ اللهِ في قبول التوبة، فلا سبيل إلى النَّجاة إلَّا بعفو الله، وكرمِه، ومغفرتِه
فهو الذي جاد عليه بأنْ وفَّقَه للتوبة، وألْهَمَه إياها، ثم قَبِلَها منه.
ومن فضائلها وأسرارِها: أنْ يُعامِلَ العبدُ بني جِنْسِه في زَلَّاتهم وإساءاتِهم بما يُحِبُّ أنْ يُعامله اللهُ به في إساءاتِه وزَلَّاتِه وذنوبِه
فإنَّ الجزاء من جِنسِ العمل؛ فمَنْ عَفَا عُفِيَ عنه، ومَن استقصى استَقْصَى اللهُ عليه.
ومن فضائلها وأسرارِها: إقامةُ المعاذيرِ للخَلْق: فإذا أذنبَ العبدُ أقامَ المعاذيرَ للخلق، واتَّسَعَتْ رحمتُه لهم، واستراح العُصاةُ من دعائه عليهم، وقنوطِه
من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسَه واحدًا منهم؛ فهو يسأل اللهَ المغفرةَ لهم، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.