اختلف العلماء في رؤية المنافقين لله تعالى يوم القيامة ، بل اختلفوا في رؤية الكفار – عموما – لله تعالى يوم القيامة .
وسبب هذا الاختلاف أنه لم يرد نص قاطع ، أو ظاهر ظهورا قويا ، يدل على الإثبات أو النفي ، فاجتهد العلماء في فهم النصوص الواردة في ذلك ، ولهذا فليست هذه المسألة من مسائل الاعتقاد التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها ، كما أنها ليست من المسائل التي يبدع فيها المخالف ، بل لا حرج على من أثبتها أو نفاها أو توقف فيها، حسب ما ظهر له من الأدلة الشرعية .
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختلاف العلماء في رؤية الكفار لله تعالى يوم القيامة ، فقال :
"فَأَمَّا " مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ " : فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهَا وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا - فِيمَا بَلَغَنَا - بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَأَمْسَكَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ....
ففي هذين الحديثين : أن الله تعالى سيأتي هذه الأمة وفيها منافقوها في صورة غير صورته ، ثم يأتيهم مرة أخرى في صورته ، فأخذ بعض العلماء منه أن المنافقين سيرون الله .
قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى :
" جميع أمة النبي صلى الله عليه وسلم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم ومنافقهم ، وبعض أهل الكتاب: يرون الله عز وجل يوم القيامة .
يراه بعضهم رؤية امتحان ، لا رؤية سرور وفرح وتلذذ بالنظر في وجه ربهم ، عز وجل ، ذي الجلال والإكرام .
وهذه الرؤية : قبل أن يوضع الجسر بين ظهري جهنم ... – ثم ساق الحديثين السابقين – " انتهى من " التوحيد " (1 / 420) .
وأجيب عن هذا الاستدلال : بأن الحديث ليس فيه التصريح بذلك ، وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون سيرون الله ، ولا يلزم من ذلك أن يراه جميعهم .
انظر : "شرح صحيح مسلم للنووي" (3/28-29) .
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
هل رؤية الله سبحانه وتعالى ثابتة ؟ وما الدليل؟
وما القول الراجح في ذلك ؟ وهل المنافقون يرونه في المحشر ؟
فأجاب : "رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر ، يراه المؤمنون يوم القيامة ، ويرونه في الجنة كما يشاء ، بإجماع أهل السنة كما قال عز وجل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وقال سبحانه : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) .
فَسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله ، وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة .
أما في الدنيا : فلا يرى في الدنيا ، كما قال سبحانه وتعالى : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، وقال لموسى: (لَنْ تَرَانِي) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (واعلموا أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت ) ؛ فالدنيا ليست محل الرؤية ؛ لأن الرؤية نعيم ، رؤية الله أعلى نعيم أهل الجنة ، وهذه الدار ليست دار النعيم ، دار الأكدار ، ودار الأحزان ، ودار التكليف ، فلا يرى في الدنيا ، لكنه يرى في الآخرة ، يراه المؤمنون ، أما الكفار فهم عنه محجوبون ، كما قال سبحانه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فالكفار محجوبون عن الله يوم القيامة ، والمؤمنون يرونه في الآخرة .
والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه .
أما المنافقون فمحل نظر ، جاء في بعض الروايات ما يدل على أنه يأتي هذا اليوم ، الأمة وفيها منافقوها، لكن ليس فيه الصراحة بأنهم يرونه يوم القيامة" .
انتهى من " فتاوى ابن باز " (28/412) .
وقد تقدم في الفتوى رقم : (116644) أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قد اختار أن المنافقين يرون الله يوم القيامة في موقف الحساب ولا يرونه بعد ذلك .
وقد ذكر شيخ الإسلام أعذار من اختلف من أهل العلم في هذه المسألة ؛ فإن مع كل فريق من الأدلة ما يرى أنه يدل على ما ذهب إليه .
فقال رحمه الله :
"أَمَّا الْجُمْهُورُ فَعُذْرُهُمْ ظَاهِرٌ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ؛ وَأَنَّ عَامَّةَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي " الرُّؤْيَةِ " لَمْ تَنُصَّ إلَّا عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِرُؤْيَةِ الْكَافِرِ ، وَوَجَدُوا الرُّؤْيَةَ الْمُطْلَقَةَ قَدْ صَارَتْ دَالَّةً عَلَى غَايَةِ الْكَرَامَةِ وَنِهَايَةِ النَّعِيمِ.
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ عُمُومًا وَتَفْصِيلًا : فَقَدْ ذَكَرْت عُذْرَهُمْ ، وَهُمْ يَقُولُونَ: قَوْلُهُ: (كَلَّا إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، هَذَا الْحَجْبُ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ: حَجَبْت فُلَانًا عَنِّي ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَجْبَ نَوْعُ رُؤْيَةٍ؛ وَهَذَا حَجْبٌ عَامٌّ مُتَّصِلٌ ، وَبِهَذَا الْحَجْبِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ يُحْجَبَ الْكُفَّارُ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا دَائِمًا أَبَدًا سَرْمَدًا.
والأهم في هذه المسألة :
- إثبات أن المؤمنين سيرون الله تعالى في موقف الحساب ، وفي الجنة ، وأن هذه الرؤية الحاصلة لهم في الجنة : هي أعظم نعيمهم .
- أن أحدا لن يرى الله تعالى في الدنيا ، ولم يختلف العلماء في حصول ذلك لأحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن الصحيح في ذلك أنه لم ير ربه .
- أن الكفار والمنافقين – إن قيل بأنهم سيرون الله في موقف الحساب – فإن هذه الرؤية ليست رؤية نعيم ، وإنما هي رؤية حساب وامتحان .
- أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار سيرون ربهم من غير تقييد ، لأن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة والثواب ، وليس لأحد أن يطلق لفظا يوهم خلاف الحق ، إلا أن يكون مأثورا عن السلف في الباب ، وإطلاق القول برؤية الكفار أو المنافقين : ليس مما أثر عن السلف في هذا الباب .
وينظر "مجموع الفتاوى" (6/485) .
والله أعلم